انهيار عالمي وازدواجية معايير- فلسطين تدفع الثمن.

منذ ما يزيد على تسعة أشهر، والدماء الفلسطينية تنزف بغزارة، داخل قطاع غزة وخارجه، وسط صمت دولي فاضح، وعجز تامّ في المشهد العالمي الذي استنفد كل ما لديه من أدوات سياسية وإعلامية وخطابية، واكتفى بالتعبير عن قلقه العميق، والمطالبة بوقف فوري للعدوان، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، دون أن يتمكن من إنقاذ إنسان يموت جوعًا بدم بارد، وعن سابق إصرار وتصميم.
إنه مشهد مروع يكشف عن الانهيار الأخلاقي والسياسي للمنظومة الدولية، أمام جبروت الإرادة الأميركية التي ترعى الاحتلال الإسرائيلي، وتجعله يعيش فوق القانون وفوق القيم الإنسانية السامية، ما يرسخ منطق القوة الغاشمة. وقد أشار إلى هذه الحقيقة المرة كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، في حوار مع شبكة CNN الأميركية، بعد تقديمه طلبًا رسميًا لقضاة المحكمة لإصدار أوامر اعتقال بحق كل من بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، حيث صرح قائلاً: "تحدث معي بعض الساسة بوضوح شديد، وقالوا لي: هذه المحكمة أُنشئت من أجل أفريقيا، ومن أجل مجرمين حرب مثل بوتين".
ازدواجية معايير وعنصرية
تتجلى الأزمة الحقيقية في ازدواجية المعايير الفاضحة، حيث يسعى هؤلاء الساسة إلى تقسيم العالم إلى طبقة من الأسياد، وأخرى من العبيد، وتطبيق معايير مختلفة على كل منهما، فقيمة الإنسان الشرق أوسطي أو الآسيوي أو الأفريقي لا تعادل قيمة الإنسان الغربي أو الإسرائيلي الذي يشاركهم نفس الثقافة والقيم، بأبعاد لاهوتية واضحة.
هذه المعايير المزدوجة، المفعمة بالعنصرية البغيضة، تولد لدى الشعوب المضطهدة إحساسًا عميقًا بالحاجة الماسة إلى الدفاع عن النفس بكل الوسائل المتاحة، لحماية الذات والحفاظ على كرامة الإنسان. وأكثر من يشعر بذلك هم الشعوب التي ترزح تحت نير الاحتلال، كالشعب الفلسطيني الذي خابت آماله في المنظومة الدولية وقراراتها، وفي مسار المفاوضات العقيم الذي استمر لأكثر من 30 عامًا. وكانت النتيجة المزيد من التوسع الاستيطاني، واستمرار آلة القتل والتدمير التي تستهدف مقومات الحياة في جميع أنحاء الضفة الغربية والقدس المحتلة، المثقلة بسياسات التهويد الممنهجة.
إن معايير الغرب المزدوجة والمنحازة بشكل سافر للاحتلال الإسرائيلي، هي عامل جوهري في استمرار الصراع المرير في فلسطين، وزعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط بأكملها. فالشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة يراقبون عن كثب كيف يتعامل حلف الناتو، وهو حلف المنظومة الغربية، مع أوكرانيا، حيث يمدها بكل أنواع الأسلحة المتطورة والأموال الطائلة واحتياجات الإغاثة الضرورية؛ لمواجهة الهجوم الروسي على أراضيها.
هؤلاء ذاتهم يقدمون لإسرائيل، المُعرفة قانونًا كقوة احتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، كل أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرمة دوليًا، لقتل الفلسطينيين الأبرياء (أكثر من 130 ألف شهيد وجريح)، وتدمير معالم الحياة بأكملها في قطاع غزة المحاصر، (تم تدمير 34 مستشفى وعشرات المراكز الطبية)، والمدارس والجامعات، والبنية التحتية الحيوية، إضافة إلى تدمير ما يقارب 450 ألف وحدة سكنية.
تستمر المأساة الإنسانية والخذلان المخزي، بما في ذلك خذلان المؤسسات العربية، وكأن ما يحدث في قطاع غزة ليس سوى فيلم سينمائي مأساوي يستحق التعاطف الافتراضي في عالم خيالي بعيد عن الواقع.
إن ضعف الموقف الدولي والعربي، وغياب الإجراءات الفعالة والرادعة، يشجعان الاحتلال الإسرائيلي على الاستمرار في ارتكاب جرائمه الشنيعة، كما يخلقان فراغًا متسعًا في فلسطين وعموم المنطقة، لا يمكن ملؤه إلا بمقاومة الشعوب الباسلة، التي تسعى جاهدة لحماية نفسها من احتلال متوحش ومارق، تجاوز كل الأعراف والمواثيق الدولية، ولا يكترث بالاعتراضات اللفظية الخجولة لدول العالم، طالما أنه يأمن من المحاسبة والعقاب.
العين على الضفة والقدس
إن انسداد المسارات السياسية، وفشل مسار أوسلو الذي تحول إلى عبء ثقيل على الشعب الفلسطيني، وجنوح المجتمع الصهيوني وقيادته نحو التطرف السياسي والأيديولوجي، ورفضهم القاطع للدولة الفلسطينية، وعدم الاعتراف بوجود شعب فلسطيني له الحق في تقرير مصيره، كل ذلك يزيد من حدة المواجهة، لأن الاحتلال الإسرائيلي، خطابًا وواقعًا، يعمل على تقويض الحالة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، بالتوازي مع عدوانه المستمر على قطاع غزة.
صحيح أن بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف المتشدد، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، يسعون جاهدين لإطالة أمد الحرب لأسباب شخصية بحتة، أو خشية من الفشل الذريع في أية انتخابات قادمة، لعجزهم الواضح عن تحقيق أهداف الحرب المعلنة ضد قطاع غزة، إلا أنه لا بد من التأكيد أيضًا على أنهم يرون في وجودهم في السلطة فرصة ذهبية لتحقيق أهدافهم الخبيثة بضم الضفة الغربية والقدس المحتلة إلى دولة إسرائيل الكبرى تدريجيًا، وفقًا لإجراءات تعتمد على فرض الأمر الواقع بالقوة الغاشمة.
هذا المشروع الاستراتيجي المركزي للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية يدفع بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف إلى التمسك بفكرة القضاء التام على المقاومة الفلسطينية، وحركة حماس عسكريًا وسياسيًا. فوجود الحركة والمقاومة، ليس فقط تهديدًا وجوديًا لإسرائيل المحتلة، ولكنه أيضًا سبب رئيسي لتعطيل مشاريع ضم الضفة والقدس، وإرباك الحسابات الإسرائيلية في المنطقة، وفي مقدمتها مشروع التطبيع مع الدول العربية. وهذا يفسر إصرار نتنياهو الشديد على شطب حركة حماس من المعادلة السياسية، أو فرض شروط تفاوضية تعجيزية، تعني القبول بالاحتلال الإسرائيلي وسيطرته الكاملة على غزة، كما هو الحال في الضفة والقدس.
إن ضعف الإدارة الأميركية الحالية، وتجنبها ممارسة ضغوط حقيقية وفاعلة على حكومة الاحتلال المتطرفة، خشية من انعكاس ذلك سلبًا على فرص الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية القادمة، يشجعان نتنياهو واليمين المتطرف على الاستمرار في تنفيذ مخططاتهم التوسعية.
بالنسبة لنتنياهو، كان الوقت هو كل ما يحتاجه، انتظارًا لعودة المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إذا ما استمر في تصدر استطلاعات الرأي العام، ومعه يأمل نتنياهو في التعاون الوثيق للقضاء على المقاومة الفلسطينية وحركة حماس بشكل نهائي، وربما توجيه ضربات عسكرية قوية لحزب الله في لبنان، لخلق حزام أمني عازل حول الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، حتى يتسنى له التفرغ للمضي قدمًا في إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، عبر ضم الضفة الغربية والقدس الشرقية. وهذا ليس بعيدًا عن تفكير دونالد ترامب، صاحب صفقة القرن المشؤومة، التي أعدها بالشراكة الكاملة مع نتنياهو في ولايته الرئاسية السابقة.
ما زلنا في ذروة المعركة المصيرية، والأشهر القادمة ستكون حاسمة في رسم معالم المستقبل؛ لأن الاحتلال الإسرائيلي أرادها معركة وجودية على أرض فلسطين التاريخية، وهو مسار إلزامي فرضه اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو، الذي يرى أن الهزيمة في هذه المعركة تعني بداية النهاية لدولة إسرائيل. وقد وعد نتنياهو الجمهور الإسرائيلي في العام 2017 بأن دولة إسرائيل ستتجاوز لعنة الثمانين عامًا، وتتخطى المائة سنة، لتتجاوز عمر دولة "الحشمونائيم" في التاريخ اليهودي القديم.
فهل ينجح نتنياهو في تحقيق هذا الوعد، ويكون ملكًا متوجًا على إسرائيل الكبرى، أم تدركهما سويًا لعنة العقد الثامن المشؤوم؟